السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمٰن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد: فتنفير الناس عن الحق، وأهله، سمةٌ بارزةٌ، لمن عدم الحجة، وضعف عن الرد بالدليل والبرهان، فلجأ إلى السب والشتم والتعيير، وتلقيب أهل الحق بألقاب السوء-كالحشوية-، وأسماء فرق الضلال –كالمرجئة-، وصفاتهم بأنهم يكفرون العلماء، وأن أهل الحق يريدون المخالفة من أجل إحادث الفتن في البلاد[وهذا من أجل إيغار صدر الحاكم عليهم]، أو نسبتهم لمذهبٍ فقهي كقولهم حنابلة أو ليس أحمد ابن حنبل أحد الأئمة المتّبعين؟! أولعالم من علماء المسلمين، أو التنقيب عن خطئ عالم أوطالب علم، لنشره وإشاعته، مع التهويل والتهويش والزيادة عليه، أونقل كلام مبتور، أوفهمه على غير مراد صاحبه، فإن لم يجدوا هرعوا إلى الكذب الصراح ، دون خوف من الله ولاحياء-ولاحول ولاقوة إلا بالله- .
ولكن الكذب، عاقبته وخيمة، ونهاية صاحبه أليمة، والكذاب ليست لنا معه حيلة، إلا دعاء الله أن يكفنا شره.
قال الشاعر[3]:
لي حيلة فيمن ينم ... وليس في الكذاب حيله
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليله
وقال:
لايكذب المرء إلا من مهانته ... أو فعله السوء، أو من قلة الأدب
لبعض جيفة كلب خيرُ رائحة ... من كذبة المرء في جد وفي لعب[4]
[وقال أعرابي لابنه وسمعه يَكْذِب: يا بني، عجبتُ من الكذَّاب المُشِيد بكَذبه، وإنما يدل الناس على عَيْبِه، ويتعرَّضُ للعقاب من رَبِّه؛ فالآثامُ له عادة، والأخبارُ عنه متضادة، إن قال حقاً لم يُصَدَق، وإن أراد خيراً لم يوفَّق، فهو الجاني على نفسه بفعاله، والدّالُ على فضيحته بمقَالِه. فما صحَّ من صدقه نُسِب إلى غيره، وما صحّ من كذب غَيْرِه نُسِب إليه، فهو كما قال الشاعر:
حَسْب الكذوب من المَهَا ... نَة بَعْضُ ما يحكى عليهِ
ما إن سمعت بكذبة ... من غَيْرِه نُسبَتْ إليهِ][5]
ويقال: الكذب جماع النفاق، وعماد مساويء الأخلاق، عارٌ لازم، وذل دائم، يُخيف صاحبُه نفسَه وهو آمن، ويكشف ستر الحسَب عن لؤمه ] [6].
من أجل هذا أردت أن أنقل للقارئ الكريم، هذه المقالة الرائعة، والدرة النفيسة، من مقالات الإمام الهمام، مجدد القرن الماضي في بلدنا الحبيبة الجزائر الغراء، أحد أعمدة الإصلاح في هذا الزمان، عبد الحميد ابن باديس رحمه الله تعالى، فتعالوا بنا إخوننا القراء الأعزاء، لنعيش معها، ونقارن بين ماجرى لأهل الحق قديما، ومايجري عليهم الآن.
قال الإمام ابن باديس رحمه الله تعالى[7]: »لما قفلنا من الحجاز، وحللنا بقسنطينة عام 32[19]، وعزمنا على القيام بالتدريس، أدخلنا في برنامج دروسنا تعليم اللغة وأدبها، والتفسير، والحديث، والأصول، ومبادئ التاريخ، ومبادئ الجغرافية، ومبادئ الحساب، وغير هذا، ورأينا لزوم تقسيم المعلمين إلى طبقات، واخترنا للطلبة [كذا ولعله: للطبقة] الصغرى منهم بعض الكتب الابتدائية التي وضتعها وزارة المعارف المصرية، وأحدثنا تغيرا في أساليب التعليم، وأخذنا نحث على تعلم جميع العلوم باللسان العربي والفرنسي، ونحبب الناس في فهم القرآن، وندعوا الطلبة إلى الفكر والنظر في الفروع الفقهية والعمل على ربطها بأدلتها الشرعية، ونرغبهم في مطالعة كتب الأقدمين، ومؤلفات المعاصرين، لما قمنا بهذا وأعلناه قامت علينا وعلى من وافقنا قيامة أهل الجمود والركود وصاروا يدعوننا[8]للتنفير والحط منا "عبداويين" دون أن أكون-والله-يوم جئت قسنطينة قرأت كتب الشيخ محمد عبده إلا القليل، فلم نلتفت إلى قولهم، ولم نكترث لإنكارهم، على كثرةسوادهم، وشدة مكرهم، وعظيم كيدهم، ومضينا على ما رسمنا من خطة، وصمدنا إلى ما قصدنا من غاية، وقضيناها عشر سنوات في التدريس لتكوين نشء علمي لم نخلط به غيره من عمل آخر، فلما كملت العشر وظهرت-بحمد الله-نتيجتها، رأينا واجبا علينا أن نقوم بالدعوة العامة إلى الإسلام الخالص، والعلم الصحيح ، إلى الكتاب والسنة وهدي صالح سلف الأمة، وطرح البدع والضلالات ومفاسد العادات، فكان لزاما أن نؤسس لدعوتنا صحافة تبلغها للنَّاس، فكان المنتقد، وكان الشهاب، ونهض كتاب القطر ومفكروه في تلك الصحف بالدعوة خير قيام، وفتحوا بكتاب الله وسنة رسوله-صلى الله عليه وآله وسلم- أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، وكانت هذه المرة غضبة الباطل أشد، ونطاق فتنته أوسع، وسواد أتباعه أكثر، وتمالأ على دعاء [لعله: دعاة] الحق الجمودُ والبدعةُ، وعليها بنيت صروح من الجاه، ومهما جرت أنهار من المال[9]، وأصبحت الجماعة الداعية إلى الله يُدعَون من الداعين إلى أنفسهم: "الوهابيين"، ولا والله ماكنت أملك يومئذ كتابا واحدا لابن عبد الوهاب، ولاأعرف من ترجمة حياته إلا القليل، ووالله مااشتريت كتابا من كتبه إلى اليوم، وإنما هي أفيكات قوم يهرفون بما لايعرفون، ويحاولون من إطفاء نور الله ما لايستطعون، وسنعرض عنهم اليوم وهم يدعوننا "وهابيين" كما أعرضنا عنهم بالأمس وهم يدعوننا "عبداويين"، ولنا أسوة بمواقف أمثالنا مع أمثالهم من الماضين.
ولما كان من سنة القرآن الحكيم التنبيه على مشابهة اللاحقين من النَّاس للسابقين في منازعهم وأهوائهم وكثير من أحوالهم، حتى كان التاريخ يعيد نفسه بإعادة ذلك منهم، وجاء ذلك في مثل قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ﴾[الذاريات/52-53] وقوله: ﴿تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾[البقرة/113] وغيرها، لما كان هذا من سنة القرآن فتحنا هذا الباب من الصحيفة تحت عنوان "التاريخ يعيد نفسه" لننشر فيها-ما أمكننا النشر- قصصا من حياة رجال السنة المصلحين مع دعاة البدعة المبطلين، تزيد العالم المصلح ثباتا على الحق، والقارئ الصادق تبصرة في الأمر، و﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾[يوسف/111] .
ولسنا نقصد في وضع قصصنا إلى وضع تأليف، ولانخص هذا النقل بكاتب معين أوكتاب مختص، وبين أيدينا الآن كتاب "الاعتصام" لمؤلفه علامة المعقول والمنقول أبي إسحاق الشاطبي المالكي المتوفى سنة 790، فرأينا أن ننقل منه الفصل التالي الذي يذكر فيه أبوإسحاق مارُمي به من مثل مارُمينا به، حتى كأنا في زمان واحد، قال رحمه الله[10]:
) فلما أردت الاستقامة على الطريق، وجدت نفسي غريباً في جمهور أهل الوقت، لكون خططهم قد غلبت عليها العوائد، ودخلت على سننها الأصلية شوائب من المحدثات الزوائد، ولم يكن ذلك بدعاً في الأزمنة المتقدمة، فكيف في زماننا هذا فقد روي عن السلف الصالح من التنبيه على ذلك كثير، كما روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال:" لو خرجَ رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- عليكم ما عرف شيئاً مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة" قال الأوزاعي [رحمه الله]: "فكيف لو كان اليوم؟" قال عيسى بن يونس [رحمه الله]:" فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان ؟" [11]
وعن أم الدرداء [رضي الله عنها] قالت: "دخل[عليَّ] أبو الدراداء وهو غضبان، فقلت[له]: ما أغضبكَ؟ فقال: والله ما أعرف فيهم، [والله ماأعرف فيهم]شيئاً من أمر[محمدصلى الله عليه وسلم] إلا أنهم يصلون جميعاً"[12].
وعن أنس بن مالك[رضي الله عنه] قال: ما أعرف منكم ما كُنتُ أعهدهُ على عهد رسولِ الله-صلى الله عليه وآله وسلم- غير قولكم : لا إله إلا الله". قلنا: بلى يا أبا حمزة[الصلاة] ؟ قال: "قد صلَّيتُم حتى تغرُب الشمس، أفكانت تلك صلاةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!"[13]
وعن أنس [رضي الله عنه][14] قال:" لو أن رجلاً أدرك السَّلفَ الأوَّلَ، ثم بُعِث اليومَ، ما عَرف من الإسلام شيئاً- قال: ووضع يده على خدِّه، ثم قال- : إلا هذه الصلاة، ثم قال: أما –والله- على ذلك لمن عاش في النكر[15] ولم يُدرك هذا السلف الصَّالح فرأى مبتدعاً يدعو إلى بدعته، ورأى صاحبَ دنيا يدعو إلى دنياه، فعَصَمَه الله من ذلك، وجعل قلبه يَحِنُّ إلى ذلك السلف الصالح، يسأل عن سبيلهم، ويَقْتَصُّ آثارهم، ويتَّبع سبيلهم، لَيُعَوَّضَ أجراً عظيماً، فكذلك فكونوا إن شاء الله"[16]
وعن ميمون بن مهران[رحمه الله تعالى] قال: "لو أن رجلاً أُنْشِرَ فيكم من السلف ما عرفَ غير هذه القبلة"[17] .
وعن[أبي] سهيل بن مالك عن أبيه[رحمهما الله تعالى] قال :" ما أعرفُ شيئاً مما أدركتُ عليه النَّاسَ إلا النِّداءَ بالصلاة"[18] .
إلى ما أشبه هذا من الآثار الدالة على أن المحدثات، تدخُل في المشروعات، وأن ذلك قد كان قبل زماننا، وإنما[19]تتكاثر على توالي الدهور إلى الآن .